دموع التوبة – الماء الذي ينقّي القلب
كان الشاه ركن الدين رحمه الله عالما جليلا من مُلْتَان. وكان ممن رزقه الله حسن القبول بين الأنام، فكان يكتظّ مسجده يوم الجمعة بالوافدين من أمكنة نائية.
ذات مرة، قال الملك غياث الدين تغلق لمستشاره الشيخ ظهير الدين رحمه الله: لقد لاحظت أن كرامات الشاه ركن الدين معروفة بين الناس. قل لي، أي كرامة من كراماته الجمة تعتبرها أعظمها؟ فأجاب الشيخ ظهير الدين رحمه الله: أي كرامة أعظم من انجذاب الناس إليه واحتشادهم عنده من غير أن يدعوهم؟!
يقول الشيخ ظهير الدين رحمه الله: لما سألني الملك هذا السؤال، شعرت بأنني مضطر إلى إجابته إجابة مناسبة، مع أنني – في أعماق قلبي – لم أكن مقتنعًا بصلاح الشاه ركن الدين رحمه الله، وكنت أظنّ أن الناس لا يجتمعون عنده بسبب تقواه وصلاحه، بل يمكن أن لديه عملا يجذب به الناس إليه.
وانطلاقا من هذه الفكرة، قررت أن أذهب إلى الشاه ركن الدين رحمه الله في اليوم التالي لاختباره وللتأكّد من كونه صالحا، وعزمت أن أطرح عليه أسئلة تتعلق بالحكمة في بعض الأحكام الشرعيةكالحكمة في غسل اليدين والغرغرة بالماء وإدخاله في الأنف في بداية الوضوء.
ثمّ نمت، فرأيت في المنام أنني زرت الشاه ركن الدين رحمه الله، فاستقبلني ورحّب بي وقدم لي طبقًا من الحلاوى، فتناولت بعض ما فيه، وعندما استيقظت في اليوم التالي، فوجئت جدّا بالرؤيا التي رأيتها، ومما زادني إعجابا وحيرة أني لم أزل أذوق طعم الحلاوى في فمي طوال اليوم.
على الرغم من رؤية هذه الرؤيا، لم يتأثر قلبي، ولم يتغير ظنّي بالشاه ركن الدين رحمه الله ، فقلت في نفسي: يرى الناس أحلاما دائما، والشيطان يقدر على إراءة الشخص حلمًا مثل هذا. فلا ينبغي لي أن أهتمّ بهذه الرؤيا. فخرجت للقائه، مع ما كان يكمن في قلبي من الظنون والشبهات.
فلما وصلت إلى مسجده، سلّم عليّ وصافحني، ثم قال لي: يا شيخ! أنا مسرور بقدومك، فإن قلبي يرغب في البحث العلمي، فكنت أبحث عن عالم مثلك، فقدومك يسرّني سرورا بالغا.
ثم قال: إن الله تعالى أنعم علينا بدين يهتم كثيرا بالنظافة والطهارة بحيث لا يستطيع أحد أن يعترض على أي أمر شرعي. على سبيل المثال، تأمل في الوضوء. عند الوضوء يأمرنا الله تعالى بغسل أيدينا أولاً ثم بالمضمضة ثم بإدخال الماء في أنوفنا. ما الحكمة في ذلك؟
لما ذكر الشاه ركن الدين رحمه الله هذا، أدرك الشيخ ظهير الدين رحمه الله أن الشاه ركن الدين رحمه الله يذكر الأسئلة التي نوى البارحة أن يطرحها عليه.
ثم تابع الشاه ركن الدين رحمه الله قائلا: إذا كان الإنسان جاهلا لا يفهم الدين، يتساءل: ما الحكمة في هذه الأوامر؟ وفي الواقع، وراء هذه الأوامر حكمة عظيمة.
أما السبب في الأمر بغسل اليدين والمضمضة والاستنشاق فهو أن الشريعة فرضت علينا تطهير أجسادنا بالماء النظيف. والماء النظيف هو الذي يخلو عن لون وطعم ورائحة. وإذا نظرنا في أفعال الوضوء الثلاثة الأولى، علمنا أنها تعرّفنا أن الماء يتّصف بهذه الصفات الثلاثة (عدم اللون والطعم والرائحة)، فهو مطهّر يجوز الوضوء به.
الصفة الأولى هي لون الماء، فإذا أخذ المرء حفنة من الماء لغسل اليدين ، تمكّن من معرفة لون الماء، والصفة الثانية هي الذوق، فإذا مضمض، أمكن له معرفة طعم الماء، والصفة الثالثة هي رائحة الماء، فإذا أدخل الماء في الأنف، تمكّن من معرفة أن رائحة الماء قد تغيرت أم لا.
وهذا هو جمال شريعتنا الغراء – وراء كل أمر – صغيرا كان أو كبيرا – فوائد وحكم عظيمة، (وإن لم تدرك عقولنا القاصرة الحكمة). فلا ينبغي لشخص أن يعترض على أحكام الشرع.
ثم قال الشاه ركن الدين رحمه الله: يا شيخ! أَمَرَ الشرع غير المتوضّئ أن يطهر بعض أعضائه بالماء حتى يصير متوضئا. وأما الجنب، فأمره الشرع أن يغتسل ويغسل بدنه كله. وإذا نظرنا في هذا الأمر، فإنه يبدو غريبا. وهي أن مباشرة النساء تنجّس بدن الإنسان كله ويبقى على هذا الحال إلى أن يغتسل. وهذا معروف ومعلوم لدى جميع الناس.
أما الجنابة فهي نجاسة ظاهرة، يحتاج الجسد الظاهر إلى تطهيره. ولكن هناك نجاسة أخرى وهي نجاسة القلب، وهي أيضا تحتاج إلى تطهير وتزكية. ولكن ما السبب في نجاسة القلب؟
رأينا أن الإنسان إذا باشر مع زوجته التي تحلّ له، ينجس جسده كله. فتخيل تأثير صحبة الأشرار والعاصين المعرضين عن الدين الغير الملتزمين بالشريعة على القلب، فينشأ هنا سؤال: كيف نطهر قلوبنا التي تصدأ بالذنوب؟
فلما سمع الشيخ ظهير الدين رحمه الله ذلك، لم يتمكن من أن يحبس دموعه وبدأ يبكي، لأنه أدرك أن الشاه ركن الدين رحمه الله ذكر الاسئلة التي نوى أن يسألها قبل أن يقدّمها وذكر جميع الاعتراضات التي كانت في ذهنه. فتيقّن أن الشاه ركن الدين رحمه الله صالح في الواقع، فشعر بالندم على فعله وظنّه السيئ به.
ثم التفت الشيخ ظهير الدين رحمه الله إلى الشاه ركن الدين رحمه الله وقال: سيدي! أنا جاهل تماماً بأمور القلب وتنظيفه، من فضلك دلّني على الجواب! فأجاب الشاه ركن الدين رحمه الله: إذا نجس جسد المرء طهر بالماء النظيف. وأما من نجس قلبه، فإنه يحتاج أيضًا إلى “الماء” لتطهيره. لكن “الماء” الذي يحتاج إليه لتنقية القلب هو “ماء” العيون. فإذا تاب العبد باكيا وندم على ذنبه، طهر الله عزّ وجلّ قلبه. (كرامات الأولياء ص ٢٦٧-٢٧٢)