صدق الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله
كان الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله من العلماء الكبار والأولياء الصّادقين في عصره (القرن السادس الهجري). وكان ممن رزقه الله حسن القبول في الخَلق حتى تاب جمّ غفير منهم على يديه. وكان من أبرز الصفات والشمائل التي كان يتحلى بها الصدقُ والأمانةُ. والقصّة التالية تعكس مدى تمسّكه بهذه الخصلة الجميلة التي ليّنت قلوب أكبر العصاة في زمنه:
لمّا أراد رحمه الله أن يشتغل بطلب العلم، استأذن والدته في الرحلة إلى بغداد، كي يتلقّى العلم عن علماء زمنه الكبار، فأذنت له والدته وأعطته أربعين دينارا، وخاطته في ثوبه تحت إبطه. وحينما ودّعته، نصحته وعاهدته على الصدق وألا يكذب أبدا. فعضّ رحمه الله على نصح والدته بالنواجذ ووافى بما عاهدته عليه.
فسار مع قافلة إلى بغداد. تعرض ستون سارقا للقافلة ونهبوها، وأخذوا ما استطاعوا أن يأخذوا من الأموال. فمرّ به أحد السارقين وظنّ أنه لا يكون عنده شيء، فقال: يا فقير! ما معك؟ فتذكّر نصح والدته، وقال: أربعون دينارا. فسأله: وأين هو، فأخبره أنه مخاط في ثوبه تحت إبطه، فظنّ أنه يستهزئ به فتركه.
ثم أتى إليه آخر وسأله نفس السؤال، فأجابه كما أجاب الأوّل. فظنّ أيضا أنه يستهزئ به وتركه. فأخبر السارقان رئيسهما بما وقع، فطلب الرئيس أن يحضراه.
فلمّا جاء، قال له: يا ولد! ما معك؟ قال: أربعون دينارا، فسأله: أين هو، فقال: مخاط تحت إبطي في ثوبي، فتعجّب وقال: ما حملك على هذا الاعتراف؟ (أي: لو لم يخبرهم، لما علموا)، فقال: نصحتني والدتي ألا أكذب وعاهدتها على ذلك، فلا أريد أن أخون عهدي بها.
فلمّا سمع الرئيس ذلك، تأثر به وبدأ يبكي، وقال: أنت لم تخن عهد أمك وإني إلى اليوم كذا وكذا سنة أخون عهد ربّي (بالسرقة وارتكاب الذنوب)
فتاب الرئيس وعزم على ترك السرقة والذنوب، فلمّا شاهد السارقون الآخرون أن رئيسهم قد تاب، قالوا: كنت رئيسنا في السرقة، وأنت الآن رئيسنا في التوبة، فتابوا جميعا ورجعوا ما سرقوا إلى القافلة.
فتمسُّكُ الشيخ عبد القادر رحمه الله بالصدق والأمانة تسبّب في توبة ستين سارقا وإصلاح حياتهم. (من قلائد الجواهر صـ ٩)
وقد أكّد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أهمّية الصدق والأمانة قائلا: إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا (صحيح مسلم، الرقم: ٢٦٠٧)
ولا يغيبنّ عن بالنا أن الصدق غير منحصر في الكلام، بل هو مطلوب في جميع الشؤون الدّينية والدنيوية.
فإذا صدق العبد، أدّى جميع ما عليه من الحقوق، دينية كانت أو دنيوية، ولم يكتف بذلك، بل يحمل بين جنبيه قلبا يخفق بالرحمة والشفقة على الخلق كما هو مقتضى تعليمات سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فالحاصل أن العبد الصادق هو الوفيّ بربه دائما، هو يهتمّ بإرضائه وبخدمة خلقه بقدر استطاعته. ومن اتّصف بصفة الصدق، نال مرتبة الصدّيقين. واختار الله سيدنا أبا بكر رضي الله عنه أن يكون قدوة للناس بعد الأنبياء لصدقه، فهو أكبر الصدّيقين الذي كانت جميع ألفاظه وأقواله من مظاهر الصدق.
ومن المهم للغاية في تربية الأولاد أن يزرع الوالدان فيهم الصدق والأمانة. فإذا غرست هذه الصفة في قلب الأولاد، فإنهم يهتمّون بأداء حقوق الله عزّ وجلّ والخلق طوال حياتهم، مهما واجهوا من الأحوال، ويعتنون بإصلاح حياتهم ظاهرا وباطنا، ويستعدّون للوقوف أمام الله عزّ وجلّ والحساب يوم القيامة، ويكونون مصابيح يستضاء بهم أينما حلّوا وارتحلوا.