الرئيسية / التفسير / تفسير سورة الكافرون

تفسير سورة الكافرون

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيْمِ

قُلْ يٰاَيُّهَا الْكٰفِرُونَ ‎﴿١﴾‏ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ‎﴿٢﴾‏ وَلَا أَنتُمْ عٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‎﴿٣﴾‏ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ‎﴿٤﴾‏ وَلَا أَنتُمْ عٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‎﴿٥﴾‏ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ‎﴿٦﴾‏

سورة الإخلاص وسورة الكافرون سورتان عظيمتان ذواتا فضائل جمة. وقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤهما في سنة الفجر والمغرب، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بأن تقرأ سورة الكافرون قبل النوم فقال: اقرأ: قل يا أيها الكافرون ثم نَمْ على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك (سنن أبي داود، الرقم: ٥٠٥٥)

وروي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال: لدغت النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم عقربٌ وهو يصلي، فلما فرغ قال: لعن الله العقرب لا تدع مصليا ولا غيره، ثم دعا بماء وملح، وجعل يمسح عليها ويقرأ ب قل يا أيها الكافرون، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس (فشفي صلى الله عليه وسلم ببركة هذه السور) (المعجم الصغير للطبراني، الرقم: ٨٣٠)

وأما سبب نزول هذه السورة، فقد حكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قريشا دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة ويزوّجوه ما أراد من النساء فقالوا: هذا لك يا محمد وكُفَّ عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فنزلت هذه السورة (التفسير المظهري ١٠/٣٥٤)

وفي رواية أخرى أن قريشا طلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا إلهه سنة، فقال، معاذ الله أن نشرك بالله شيئا فقالوا: فاسْتَلِمْ (مس) بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك، فنزلت هذه السورة

والحاصل أن الكفار عرضوا على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشياء:

الأول ألا يذكر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم بسوء.

الثاني أن يشاركهم في عبادتهم ويشاركوه في عبادته بأن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة.

والثالث أن يمس سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم على الأقل تعظيما واحتراما لها، لكن الله عزّ وجلّ أنزل هذه السورة ينهى فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يقبل أيا منها (أي: من الأمور الثلاثة)

التصريح الواضح في هذه السورة

صرحت هذه السورة الكريمة بأن الإسلام لا يمكن أن يضم أو يخلط بأديان الكفار، فإن الله عزّ وجلّ ذم فيها أفعال الكفار وأمر المسلمين أن يعبدوه وحده من غير أن يشركوا به شيئا أو يحرفوا دينهم بشيء من الكفر.

وإنما نهى الله عزّ وجلّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبول عروضهم، لأن الإسلام دين كامل شامل مبني على التوحيد وطاعة الله عزّ وجلّ وحده.

والحاصل أن ديننا لا يمكن أن يخلط بدين آخر، لأن سائر الأديان سوى الإسلام مبنية على الكفر والشرك ودين الإسلام مبني على التوحيد وطاعة الله عزّ وجلّ وحده.

قُلْ يٰاَيُّهَا الْكٰفِرُونَ ‎﴿١﴾‏ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ‎﴿٢﴾‏ وَلَا أَنتُمْ عٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‎﴿٣﴾‏ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ‎﴿٤﴾‏ وَلَا أَنتُمْ عٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‎﴿٥﴾‏

في الظاهر يبدو أن في هذه الآيات تكرارا، ولكن الأمر ليس كذلك. بل هناك فرق بين الآيتين الأوليين والأخريين وهو أن الآيتين الأوليين تشيران إلى الحال والأخريين تشيران إلى المستقبل. والمقصود أننا لن نعبد آلهتكم، فلا تتوقع منا أن نشارككم في عبادتكم.

فعلى هذا، كلمة “ما” في الأيات الأربعة موصولة ، والمراد بها الذي يُعبد (المعبود)، فالذي نعبده هو الله عزّ وجلّ والذي تعبدونه هو أصنامكم.

وقد ذكر بعض المفسّرين – ومنهم العلامة ابن كثير رحمه الله – وجها آخر في بيان الفرق بين الآيتين الأوليين والأخريين وهو أن كلمة “ما” في الأوليين موصولة وفي الأخريين مصدرية، فيكون المعنى بحسب “ما” الموصولة: لا أعبد الذي تعبدونه ولا تعبدون الذي أعبده، ويكون المعنى بحسب “ما” المصدرية – لا أعبد على الوجه الذي تعبدون ولا أنتم تعبدون على الوجه الذي أعبد.

فعلى التفسير الثاني، الآيتان الأوليان لبيان اختلاف المعبود: أن معبودنا يختلف عن معبودكم – نحن نعبد الله وأنتم تعبدون الأصنام. وأما الأخريان، فلبيان اختلاف طريق العبادة أي: طريق عبادتنا يختلف تماما عن طريق عبادتكم. فلا تتوقعوا مني – ما مدتم تريدون البقاء على باطل – أن أحيد عن الحق وأميل إلى طريق عباداتكم الباطلة ولا أتوقع منكم أن توافقوني في طريق عبادتي، فإنه لا توافق ولا تقارب بين طرق عبادتنا قطعا، وهي مخلتفة تماما.

فالحاصل أن هذه الآيات تؤكّد على أن الإسلام دين طهارة وصلاح – إيمانٌ بالله وعبادته وحده وامتثال أوامره وحده من غير انحراف عن جادّة الحق والصواب. وأما الكفر والشرك، فيعارضان الإسلام في كل شيء، فالكفر اسم للخضوع أمام كل شيء سوى الله عزّ وجلّ. فالمسلم والكافر على طريقين مختلفين في كل أمر ولا يُتوقّع من المسلم أن يقلّد الكفّار في شيء سواء كان عبادة أو تقاليد أو موضة أو احتفالا أو أسلوب تجارة.

وهذه السورة تشتمل على الدعوة إلى التوحيد والاستسلام لأوامر الله عزّ وجلّ وحده وتوضّح أهمية الخضوع لأوامر الله عزّ وجلّ من غير تردّد في جميع شعب الحياة – الدينية والدنيوية. فالمؤمن ليس كالكافر، يجري وراء مقتضيات الزمن وتغيراته، بل يبقى – في كل آن وحين – وفيا لله، ملتزما بأحكام الشرع، مدركا أنه سيحاسب أمام الله، سواء كان في وطنه أو سائحا في بلد آخر، وسواء كان في بيته أو في تجارته. ولا يتأثر بتقاليد الكفار وحضاراتهم، بل يتحلى بالقيم الإسلامية النبيلة أينما حلّ وارتحل. وهي – القيم الإسلامية الغرّاء – كانت تتمثل بارزة في حياة الصحابة الكرام رضي الله عنهم. ولأجل ذلك، كانت تنجذب إليهم قلوب من نظر إليهم حتى نظرة واحدة.

لكم دينكم ولي دين

للدين معان: منها: دين الإسلام كما ذكر الإمام البخاري رحمه الله، فيكون المعنى: لكم دينكم أي الشرك ولي ديني أي دين الإسلام والتوحيد.

ومن معانيه: الطريقة والأسلوب، فيكون المعنى: لكم طريقتكم ولي طريقتي.

والمقصود أن لكم عاقبة أعمالكم ولي عاقبة أعمالي.

موالاة الكفار

من الدروس المهمّة التي نتعلّمها من هذه السورة الكريمة أن المؤمن لا يجوز له أن يعرض عن أصوله الدينية إرضاء للكفار، وكيف يجوز له أن يعصي ربه ويخالف أحكامه إرضاء لأعداء الله.

قد نهانا الله عزّ وجلّ عن موالاة الكفار في آيات عديدة، فقال:

يٰأَيُّهَا الَّذينَ ءامَنوا لا تَتَّخِذُوا الكٰفِرينَ أَولِياءَ مِن دونِ المُؤمِنينَ أَتُريدونَ أَن تَجعَلوا لِلَّهِ عَلَيكُم سُلطٰنًا مُبينًا (سورة النساء: ١٤٤)

وقال في آية أخرى:

يٰأَيُّهَا الَّذينَ ءامَنوا لا تَتَّخِذُوا اليَهودَ وَالنَّصٰرىٰ أَولِياءَ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللَّهَ لا يَهدِى القَومَ الظّٰلِمينَ (سورة المائدة: ٥١)

تدلّ هاتان الآيتان على أن موالاة الكفار ممنوعة قطعا. هذا إلى أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مصاحبة غير المؤمنين، فقال: لا تصاحب إلا مؤمنا (سنن أبي داود، الرقم: ٤٨٣٢)

ووجه نهي المسلمين عن موالاة الكفار أن المسلم إذا والاهم، تشبه بهم في طريقتهم وزيهم وتبع حضارتهم وقيمهم وحذا حذوهم، وأخيرا يتساهل في أمور دينه ويغفل عن حقوق الله تعالى وحقوق الناس لكونه معجبا بطرق الكفار وعاداتهم.

وليعلم أننا – وإن نهينا عن موالاة الكفار – أمرنا ديننا بالإحسان إليهم وأباح لنا أن نتجر معهم بشرط ألا نتخذهم أولياء ولا نجعلهم أخلّاء ولا نخالطهم إلا في حدود الشرع.

وعصارة الكلام أننا أمرنا بأن لن ننقصهم ولا نحرمهم من حقوقهم شيئا، لكن علينا أن نعدل في معاملتنا معهم، ومع ذلك، لا نعجب بطرقهم ولا نتأثّر بحضاراتهم ولا نتساهل في أمر من أمور ديننا.

شاهد أيضاً

تفسير سورة النصر

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيْمِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّٰهِ وَالْفَتْحُ ‎﴿١﴾‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا …