بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيْمِ
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّٰهِ وَالْفَتْحُ ﴿١﴾ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا
أَفْوَاجًا: جماعات جماعات
حارب الكفّار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم طول حياته وأرادوا أن يطفئوا نور رسالته، ولم يألوا جهدا – ليلا ونهارا – في المكر ضدّ المسلمين والقضاء على دين الإسلام عن وجه الأرض.
فقبل الهجرة إلى المدينة المنوّرة، آذوا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم والصحابة الكرام رضي الله عنهم أذى شديدا وعذّبوهم بأنواع من العذاب.
وبعد الهجرة أيضا، لم يزالوا يحاربون سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقعت عدة غزوات بينهم.
ثم منّ الله عزّ وجلّ على المسلمين بفتح مبين – أي: فتح مكّة المكرّمة.
فكأن فتح مكّة المكرمة كان ثمرة جهوده صلى الله عليه وسلّم وتضحياته التي كانت تمتلئ بها حياته صلى الله عليه وسلّم. ومن خلال فتح مكّة المكرّمة، أرى الله عزّ وجلّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم والصحابة الكرام رضي الله عنهم ثمار مساعيهم الحثيثة وأظهر علوّ الإسلام وغلبته في العالم.
عند بعض المفسّرين، نزلت هذه السورة في السنة الثامنة بعد الهجرة النبوية قبل فتح مكّة المكرّمة، قبل قرابة سنتين ونصف من مغادرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الدنيا الفانية.
وبشّر الله عزّ وجلّ في هذه السورة الكريمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأن مكّة المكرّمة ستفتح له وسيدخل عدد من القبائل في دين الإسلام.
كانت سورة الفاتحة أولى سورة نزلت تامّةً، وإن نزلت قبلها بعض آيات (كالآيات الأولى من سورة العلق والمدثّر)
أما هذه السورة (سورة النصر)، فكانت آخر سورة نزلت تامّة وإن نزلت بعض الآيات بعدها.
ومن الآيات التي نزلت بعدها – كما قال المفسّرون -:
١. قول الله عزّ وجلّ: اليوم أكملت لكم دينكم – نزلت يوم عرفة في يوم الجمعة قبل وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانين يوما تقريبا.
٢. وآية الكلالة التي تتعلّق بالإرث – نزلت قبل وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو خمسين يوما.
٣. والآية التي نزلت قبل الآية الأخيرة قوله تعالى في آخر سورة التوبة: لقد جاءكم رسول من أنفسكم – نزلت قبل وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرابة خمس وثلاثين يوما.
٤. الآية التي نزلت أخيرا هي قوله تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله – نزلت قبل وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى وعشرين يوما (وقيل نزلت قبل وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أيام)
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا
كان عدد من القبائل ينتظرون ردة فعل قريش تجاه الإسلام لكونها أعزّ قبائل العرب وكانوا يؤخّرون إسلامهم إلى أن يروا ما تفعل قريش.
فبمناسبة فتح مكّة المكرّمة، لما أسلمت قريش، دخلت القبائل الأخرى في دين الله أفواجا.
فقد روي أنه أسلم في مكة المكرّمة سبع مئة شخص مرّة.
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ
في هذه الآية الكريمة، أمر الله عزّ وجلّ سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه إذا رأى الناس يدخلون في دين الله زرافات وجماعات، فليسبّح بحمد ربّه وليستغفره، فإن وظيفته ستكمّل وسيغادر الدنيا الفانية.
من تعاليم الإسلام أن الحياة التي أعطانا الله إياها ليست لتحصيل الجاه والشهرة وإبراز قوانا وغلبتنا. بل هي للخضوع أمام الله عزّ وجلّ وطاعته في السرّ والعلن وخدمة خلقه والشفقة والرحمة عليهم.
ولا ينبغي أن نتفكّر في أنفسنا فقط ولا أن ننسب الخير إلى أنفسنا، بل ينبغي أن ننسب الخير كله إلى الله ورحمته وفضله.
كما روي أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكّة المكرمة بعد فتحها متواضعا خاشعا مطأطئا رأسه على رغم كونه فاتحا عظيما، ونسب نعمة “الفتح” العظيمة إلى الله عزّ وجلّ وحده غير متفاخر ولا مختال.
فجاء في الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قام خطيبا في مكّة المكرّمة، فأوّلا كبّر ثلاثا ثم قال:
لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ
فانظر – أيها القارئ – أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينسب الفتح إلى نفسه، بل نسبه إلى الله عزّ وجلّ وحده، فإنه علم أن الله تعالى وحده هو الذي أتى بهذا اليوم العظيم – يوم الفتح والنصر والتعظيم – وفتح له فتحا مبينا.
وتوقّف أيضا قليلا وسل نفسك ماذا تتصرف إذا كنت ذا منصب وجاه؟
هل تحقّر الناس وتظن أنك فوقهم، أم ترحمهم وتعفو عنهم كما فعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من أساء إليه وإلى أصحابه رضي الله عنهم؟
في هذه السورة الكريمة، أمرنا بالتسبيح والتحميد والاستغفار. أما التسبيح والتحميد فهما لبيان عظمة الله عزّ وجلّ. وأما الاستغفار، فهو لإظهار عجزنا وضعفنا. عندما نسبّح الله عزّ وجلّ ونحمده، نقرّ ونعلن أن الله عزّ وجلّ منزّه عن كلّ عيب ونقص وأن الحمد كله له جلّت قدرته. وإذا استغفرنا، أقررنا أننا خطّاؤون ومذنبون. نسأل الله عزّ وجلّ أن يغفر لنا ذنوبنا وخطايانا.
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ
لما كان في هذه السورة الكريمة إشارة إلى اكتمال وظيفة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإلى قرب مغادرته الدنيا الفانية، أمر صلى الله عليه وسلّم بالتسبيح والتحميد والاستغفار.
وهكذا علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا إذا انتهينا من أي عمل صالح، فلنحمد الله عزّ وجلّ على توفيقه لإتمامه ولنستغفره من أي تقصير أو خطأ وقع منا أثناء القيام بالعمل.
والحاصل أن هذه السورة الكريمة تعطي كل مسلم درسا وهو أن ينيب إلى الله عزّ وجلّ بالتسبيح والتحميد والاستغفار إذا وفّقه لأي عمل صالح.
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه
كما أنه روي أن كلمتي “سُبحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ سُبحَانَ اللهِ العَظِيم” ثقيلتان في الميزان.
وكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي
وقال صلى الله عليه وسلم: طوبى لِمن وجدَ في صَحيفتِهِ استغفارًا كثيرًا
فلنخصص بعض الأوقات يوميا لقراءة هذا الذكر المبارك، ولنظهر ضعفنا وعجزنا ولنستغفر الله عزّ وجلّ من أي تقصير يقع منا خلال القيام بالعمل الصالح بدل أن نعتمد على أنفسنا وأعمالنا.