الرئيسية / التفسير / تفسير سورة العصر

تفسير سورة العصر

بِسْمِ اللَّهِ ألرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

وَالْعَصْرِ ‎﴿١﴾‏ اِنَّ الْاِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ‎﴿٢﴾‏

هذه السورة قصيرة لكنها تحتوي على رسالة أهمية للغاية للإنسان. ويدلّ على عظم هذه السورة المباركة أنه كان اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الاَخر هذه السورة إلى آخرها ثم يسلّم أحدهما على الاَخر، ليذكّرا أنفسهما برسالة هذه السورة العظيمة. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: لو تدبّر الناس هذه السورة لَوَسِعَتْهُمْ أي لكفت لهدايتهم

لو تأمّلنا في بداية هذه السورة وما تلاها، لوجدنا بينهما ارتباطا وثيقا، أقسم الله عزّ وجلّ على الوقت، ثم ذكر أن الإنسان في خسارة، ليرشدنا إلى أن الإنسان لا ينجو من الخسارة ولا يفوز إلا إذا حافظ على وقته الذي هو في الحقيقة رأس مال حياته.

فمن قدّر الوقت، فقد ربح في حياته وحظي من النعم بما يغمر به نفسَه بالبهجة والسرور. وعلى العكس، من ضيّع وقته، فقد ضيّع رأس ماله، فهو في خسارة واقعية.

والفرق بين الخسارة في رأس المال هذا (الوقت) وغيره من رؤوس المال أن غيره من رؤوس المال إذا ضاعت، يمكن أن تكسب مرّة أخرى، أمّا الوقت فإذا ضاع، فلا يمكن أن يكتسب مرة أخرى. فما يبغي المرء أن يحصل عليه، فلا بدّ أن يحصل عليه في وقته، لأن الوقت لا ينتظر أحدا ولا يعود إذا مضى، فليقدّر كل شخص كل لحظة من حياته ليحصل على الفوز التام في الدارين.

وَالْعَصْرِ ‎﴿١﴾‏ اِنَّ الْاِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ‎﴿٢﴾‏

ورد في الحديث الشريف أن كلّ الناس يغدو فبائعٌ نفسَه فمُعتقها أو موبقها.

ومعنى هذا الحديث: أن الإنسان إما أن يعمل خيرا، فهو بائع نفسه بيعا يحصل به على الثواب الجزيل والفوز بالجنة، أو يعمل شرّا فهو أيضا بائع نفسه لكن بيعا يكسب به العذاب في الدنيا ونار جهنم في الآخرة.

فعلى الإنسان أن يتفكّر فيما يريد في حياته: أيريد الفوز والسعادة في الدارين أم الشقاء والهلاك فيهما؟

إن الوقت رأس مال المسلمِ العظيمُ لكن ليس رأس المال هذا كغيره من رؤوس الأموال التي تُحفظ في خِزانة، بل هو كثلج يذوب ويفنى بسرعة في الحرارة، وكذلك لحظات الحياة تنقضي بسرعة. فتتطلب هذه السورة من الإنسان أن يقدّر الوقت ويستعمله فيما ينفعه قبل أن يفنى.

والواقع أن المرء إذا كان على وشك الموت يتمنى أن يؤخّر أجله ليعمل المزيد من الأعمال الصالحة، لكن إذا جاء أجله لا يؤخّر. قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‎(الأعراف: ٣٤)

فكل ما يرغب الإنسان أن يحصل عليه، لا بدّ له أن يحصل عليه في لحظات حياته المعدودة ولا يضيع لحظةً من حياته، بل يستغلّ كلّ لحظة من لحظات حياته بالاستعداد للآخرة.

اِنَّ الْاِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ‎﴿٢﴾‏ إِلَّا الَّذِينَ اٰمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصّٰلِحٰتِ

بيّن الله عز وجل في هذه السورة الكريمة أن من لم يؤمن به تعالى، فهو في خسارة عظيمة؛ فهو قد ضيعوا رأس مال حياته (وقته)، فلا شك أنه خاسر.

فمن المهم للغاية أن يعرف الإنسان كيف يسعد بالخيرات والحسنات وينالها في هذا الوقت المحدود الضيق؟

فذكر الله عزّ وجلّ أربعة أعمال، لا بدّ أن يفعلها كلّ إنسان لينتفع بوقته انتفاعا كاملا ويستفيد من كلّ لحظة من لحظات حياته استفادة تامّة.

أما الأعمال الأربعة فهي:

١. الإيمان بالله عزّ وجلّ

٢. القيام بالأعمال الصالحة واجتناب الذنوب والمعاصي

٣. التواصي بالحقّ والحثّ على الخير والصلاح

٤. التواصي بالخير والترغيب في اجتناب المعاصي والمنكرات

اِنَّ الْاِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ‎﴿٢﴾‏ إِلَّا الَّذِينَ اٰمَنُوْا

العمل الأوّل:

العمل الأول هو الإيمان بالله عزّ وجلّ. فمن كان يؤمن بالله فهو كمن اشترى عقارا خاليا، فبإمكانه أن يغرس فيه أزهارا وخضروات طيبة أو يزرع فيه أشجارا مثمرة، وبذلك يتمتع بثروة عظيمة. فإن لم يكن عنده عقار، فلا يستطيع أن يزرع شجرا ولا نباتا.

فالكافر – وإن قام بكثير من الأعمال الخيرية، من الرحمة والشفقة على الخلق والتبرع بالمال وغير ذلك – لا يقام لأعماله أي وزن في الآخرة بسبب عدم إيمانه، لكنه يجزى في الدنيا لما قام به من أعمال الخير، أمّا الآخرة، فليس له ثواب ما فيها.

فالإيمان هو أعظم نعم الله عزّ وجلّ ومفتاح الرقي والتقدّم. وإذا أنعم الله عزّ وجلّ على أحد بنعمة الإيمان، فليحافظ عليه كلّ حين وآن. فقد حذّر سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمتَه ضياعَ الإيمان في نهار أو ليلة، كما روي عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا (صحيح مسلم، الرقم: ١١٨)

والمرء يضيع إيمانه بسبب ارتكاب الذنوب والمحرّمات، ومخالطة أهل السوء، وشرب الخمر، والميسر، والنظر إلى الحرام على التلفاز والإنترنت وغيرهما. فإذا وقع في هذه الذنوب والمعاصي، يضعف إيمانه ويبتعد عن الدين فينجذب إلى عادات الكفار ويميل إلى أطوارهم، وآنذاك يلوح خطر شديد أن يخلع ربقة الإسلام من عنقه ويعتنق دين الكفار.

اِنَّ الْاِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ‎﴿٢﴾‏ إِلَّا الَّذِينَ اٰمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصّٰلِحٰتِ

العمل الثاني:

بعد الإيمان بالله عزّ وجلّ، يتحتّم على الإنسان أن يصرف أوقاته في الأعمال الصالحة ويشتغل بها طول حياته. فالإيمان – وإن كان أعظم النعم – لا ينفع أكمل النفع إلا إذا ألحقت به الأعمال الصالحة، لأن الإنسان إذا عمل أعمالا صالحة، ازداد إيمانه وقوي يقينه بالله عزّ وجلّ.

فقد وصف الله عزّ وجلّ المؤمنين في بداية سورة المؤمنين قائلا: “قد أفلح المؤمنون”، ثم ذكر جلّ جلاله الأعمال الصالحة التي يقومون بها مثل المحافظة على الصلوات والخشوع فيها، واجتناب اللغو واللهو، وأداء الزكاة، وحفظ الفرج عن الذنب، والوفاء بالأمانة والعهد.

ثم بيّن الله عزّ وجلّ أن هؤلاء المؤمنين يحظون بأعلى مراتب الجنة وهي جنة الفردوس.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت (مسند أحمد، الرقم: ١٦٦١)

وورد في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: ما من يوم طلعت شمسه فيه إلا يقول: من استطاع أن يعمل في خير فليعمله فإني غير مكرر عليكم أبدا (شعب الإيمان، الرقم: ٣٥٥٨)

فليحرص الإنسان على الأعمال الصالحة واجتناب المعاصي طيلة حياته

فقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال: لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: وما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله عز وجل (المعجم الأوسط، الرقم: ١٢٣٥)

وَتَوَاصَوْا بالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بالصَّبْرِ ‎﴿٣﴾‏

العمل الثالث والرابع

العمل الثالث والرابع هما ترغيب الآخرين وحثهم على الصلاح والتقوى وعلى اجتناب الذنوب والمعاصي.

فمن يسعى دائما للاستقامة على الدين القويم ولاجتناب الذنوب والمعاصي ويضع ذلك أمام عينيه، فإنه يذكّر غيره بذلك أيضا ويحثّهم عليه.

ففي هذه الآية الكريمة، يذكر الله عزّ وجلّ مسؤوليتين عظيمتين للإنسان عند التعامل مع الآخرين، الأولى: أن يحثّ الآخرين على الصلاح والتقوى، والثانية: أن ينهاهم عن الذنوب والمعاصي. ويمكن أن يقال: المقصود من هذه الآية هو ذكر فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن أراد الفوز التامّ، ينبغي له ألا يهتم بصلاح نفسه فقط، بل يهتمّ بصلاح الآخرين ورقيهم الديني.

ومن المؤسف للغاية أننا نجد في الأيام الحاليّة أن كثيرا من الناس يهمّهم صلاح أنفسهم فحسب، ولا يبالون بصلاح الآخرين، ففي هذه الآية الكريمة، يؤكّد الله عزّ وجلّ على أهمية الاهتمام بصلاح الأمة ورقيّهم الديني.

شاهد أيضاً

تفسير سورة النصر

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيْمِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّٰهِ وَالْفَتْحُ ‎﴿١﴾‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا …