كل شجر يثمر بحسب وسعه وقدرته، ويحتاج في ذلك إلى أن يسقى بالماء ويحصل على ضوء الشمس والهواء وغيرها.
كذلك مكّن الله عزّ وجلّ كلّ مؤمن من القيام بالأعمال الصالحة وخلق فيه القدرة عليها، ليمكن له أن ينتفع بالدين وأن ينفع به الآخرين.
ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: الناس معادن كمعادن الفضة والذهب (صحيح مسلم، الرقم: ٢٦٣٨)
فإذا أراد الإنسان أن يحصل على قدرة القيام بالأعمال الصالحة وأن يصير كمعدن الذهب أو الفضة في نفع الناس، فلا بدّ أن يلتزم بأمرين (مع غيرهما من الأمور اللازمة): ١. الإخلاص ٢. اتباع السنّة في جميع نواحي الحياة.
الإخلاص واتباع السنة
فالإخلاص كالبذر، يحمل صلاحية إنتاج آلاف من الأشجار التي تثمر ثمرات كثيرة. كذلك اتباع السنة في جميع شعب الحياة يحمل صلاحية وقوة إنتاج الحُبّ في قلوب العباد وإضاءة حياتهم بنور السنّة وزينتها.
وهذان الأمران مهمان للغاية في حياة المؤمن ليحظى بالنجاح وليكون سببا للرحمة والشفقة على لخلق. فإذا اجتمع هذان الأمران في شخص، غيّرا تفكيره نحو الحياة، وأصلحا خلقه وأحسنا علاقته بالله وبالناس.
وإذا أمعننا النظر في حياة السلف الصالح، نجد أنهم اتصفوا بهاتين الصفتين تماما في جميع نواحي حياتهم.
وفيما يلي قصة يتبيّن منها أهمية تحلية المسلمين حياتهم بهاتين الصفتين:
قصة نظام الملك رحمه الله
كان الحسن بن علي المعروف بنظام الملك الطوسي من السلف الصالح واشتهر بعلمه بالكتاب والسنّة وحبّه للدين وللعلم وأهله. وكان من وزراء الملك السلجوقي في نهاية القرن الخامس الهجري. وكان الملك يثق به لأمانته، ففوّض إليه أمور الملك وأذن له إذنا مطلقا أن يفعل ما يرى.
ففي زمنه، أسّس كتائب عديدة ومدارس كثيرة في جميع أنحاء الدولة وأنفق آلافا من الدراهم على المدارس الدينية وعلى العلماء وطلاب العلم.
ذات مرة، أخذ يتفكّر في المدارس الشرعية التي أنشأها – أن يتخرج منها علماء همّهم الآخرة، لا ينوون إلا خدمة الدين ابتغاء لمرضاة الله عزّ وجلّ وأدرك كلّ الإدراك أن المدارس الشرعية لو أنتجت علماء همّهم الوحيد طلب رضوان الله عزّ وجلّ وخدمة الدين بإقامة السنّة أينما حلّوا وارتحلوا، فإنهم يصيرون قائمين على الدين، وسببا لنشر الدين في الأمّة.
وعلى عكس ذلك، لو كان هدف العلماء المتخرّجين الدنيا وملذاتها، فلا يكون تعلّمهم لإقامة الدين، بل يستخدمون الدين لكسب الدنيا.
فأراد أن يعرف نيات الطلاب في تحصيل العلم، فغيّر زيه وأخفى نفسه وذهب إلى المدرسة النظامية – وكانت أعظم مدرسة أنشأها في بغداد – ليسأل الطلّاب عن نياتهم في طلب العلم.
فلما دخل المدرسة، سأل أحد الطلاب: لماذا تطلب العلم؟ قال: والدي قاض، فأنا أطلب العلم لأصير قاضيا أيضا وأكسب المال.
ثم أقبل على طالب آخر وسأله نفس السؤال، فأجاب: والدي مفتٍ، فأنا أطلب العلم لأصير مفتيا أيضا وأكسب المال.
وكذلك، سأل عددا من الطلاب نفس السؤال، فأجابوا بأجوبة متشابهة – فحواها أنهم يطلبون العلم ليحتازوا منصبا ساميا يكسبهم مالا وجاها.
فلما سمع أجوبتهم، أدرك أن نيتهم في طلب العلم هو كسب الدنيا لا ابتغاء مرضاة الله. فحزن حزنا شديدا وأحس بأن الآلاف من الدراهم التي تبذل – لا تنفق على من يطلب العلم بالنية الصحيحة، فقرّر أن يغلق المدرسة على الفور.
وبينما هو يفكّر، إذ وقع نظره على طالب يجلس لوحده في زاوية مشتغلا بكتبه، تبدو عليه علامات الفقر. فسأله نظام الملك عن سبب طلبه العلم، فقال: عرفت أن لي ربّا خلق السموات والأرض وخلقني. فإذا كان هو خالقي، فلا بدّ أن أرضيه في كل آن وحين وأن أجتنب عصيانه، فلذلك أطلب علم الدين (الشريعة وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم)، حتى أعلم كيف أرضي الله عزّ وجلّ وأبتعد عن غضبه. وكان ذلك الطالب الإمام الغزالي رحمه الله. كان طالبا آنذاك، لم ينتشر صيته ولم تطبق شهرته الآفاق.
فلمّا سمع نظام الملك جوابه، امتلأ قلبه سرورا وابتهاجا، وقرّر أن لا يغلق المدرسة. ثم أظهر نفسه للإمام الغزالي رحمه الله وقال له: لما اطلعت على نيات الطلاب في هذه المدرسة وهي أنهم يطلبون العلم للدنيا، قررت أن أغلق المدرسة، لكني الآن قررت أن لا أغلقها لما رأيتُ من إخلاصك في طلب العلم.