بسم الله الرحمن الرحيم
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ﴿١﴾ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴿٢﴾ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ﴿٣﴾ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿٤﴾ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿٥﴾
كان الوثنيون العرب لا يؤمنون بوقوع القيامة، ويعتبرونها أمرًا مستحيلًا. وذلك لزعمهم أنه يستحيل إحياء الإنسان بعد ما تحول ترابًا.
كما روي عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها (وتنتقده، و لا سيما ما يتعلق بالقيامة)، فنزلت عم يتساءلون (ردا على حديثهم).
بدأ الله عزّ وجلّ هذه السورة قائلا: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ﴿١﴾ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴿٢﴾ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ﴿٣﴾ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿٤﴾ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿٥﴾
كلمة “النبأ” المذكورة في هذه الآية يراد بها الخبر، ذكر المفسرون أنه يراد منها خبر هائل، والمراد هنا القيامة.
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿٤﴾ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿٥﴾
كلمة كَلَّا للردع (النفي مع التأكيد)، ومعناها: لا يدركون هذا الأمر بالتساؤل والنقاش والجدال والمراء، بل يعرفون حقيقته عند مواجهته، وهي حقيقة لا مجال فيها للتساؤل والخلاف والإنكار.
وتكرار قوله تعالى: كلا سَيَعْلَمُونَ… ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ للتأكيد على شدّة الأمر وعِظَم هوله، أي عندما يموتون، يُكشَف الغطاء فيشاهدون أهوال الآخرة وحقائقها بأعينهم.
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴿٦﴾ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴿٧﴾ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴿٨﴾ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴿٩﴾ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴿١٠﴾ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴿١١﴾ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴿١٢﴾ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴿١٣﴾ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ﴿١٤﴾ لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ﴿١٥﴾ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴿١٦﴾
سباتا: راحة
سراجا وهّاجا: سراجا منيرا وهو الشمس
ماء ثجاجا: دافقا منهمرا بشدة وقوة
جنت ألفافا: حدائق وبساتين كثيرة الأشجار والأغصان
في هذه الآيات إشارة إلى قدرة الله عزّ وجلّ المحيطة التي خلق بها المخلوقات العجيبة في الكون. ومن خلال بيان كيفية الخلق للكون والمخلوقات المختلفة، يُظهر الله تعالى لعباده عظيم قدرته، ويُثبت لهم أنه لا يستحيل عليه أن يُفني هذا العالم بأسره ثم يُعيد خلقه مرة أخرى.
ومن المخلوقات التي ورد ذكرها في هذه الآيات خلق الأرض، والجبال، والإنسان، والذكر والأنثى، وتهيئة الظروف المناسبة لحياة الإنسان وصحته ونشاطه. ومن النِّعم التي ذُكرت في هذا الصدد نعمة النوم.
يقول الله تعالى مشيرا إليها:
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴿٩﴾
ذكر الله عزّ وجل ّكلمة “سباتا”، وهو مشتق من السبت بمعنى القطع، وذلك لأن النوم يقطع هموم الإنسان، فينال بذلك راحة لا ينالها بغير النوم. ولذلك ذكر المفسّرون أن المراد من السبات الراحة.
فالنوم وسيلة عظيمة للراحة للخلق كلهم، الغني منهم والفقير، العالم منهم والجاهل، ملكهم وعاملهم.
وكثيرا ما يستمتع الفقراء – مع عدم توفّر وسادة أو فراش أو أي وسيلة من وسائل الراحة – بنومٍ مريح حيثما حلّوا، بينما يعاني الأثرياء أحيانًا – مع امتلاكهم جميع أسباب الراحة – من الأرق بسبب هموم الدنيا، فلا تغمض أجفانهم إلا بتعاطي أقراص التنويم.
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴿١٠﴾
في هذه الآية، ذكر الله تعالى نعمة الليل، فعندما يزول ضوء النهار ويُقبل الليل، يجد الإنسان في نفسه ميلاً طبيعيًّا إلى النوم. وقد جعل الله تعالى في الليل سكينةً تعمّ الأرجاء، حيث تغيب الضوضاء والشغب. ومن ثَمّ، يُبيّن الله تعالى في هذه الآية أنّه لم يمنح الإنسان النوم وحده ليكون راحةً له، بل هيّأ كذلك الأحوال الدنيويّة في الليل لتكون صالحة ومناسبة للنوم، حتى لا يُكدَّر على الإنسان نومُه بوجه من الوجوه.
و أضف إلى ذلك أن حالة النوم التي أنعم الله عزّ وجلّ بها على عباده ليست مقصورة على الإنسان، بل تشمل الحيوان كذلك ، في الوقت نفسه من الليل، حتى ينام الجميع في سكينة، ويسود الهدوء العام أرجاء الأرض. ولو اختلفت أزمنة نوم المخلوقات ، لما تحقّق هذا السكون العام ولا هذه الطمأنينة الشاملة.
وفي آية أخرى، يوضّح الله تعالى أنّ هذه النعمة العظيمة – نعمة الليل وما فيه من راحةٍ و سكون – إنما هي بفضل الله تعالى وقدرته وحده. قال الله تعالى:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبصِرُونَ ﴿٧٢﴾
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴿١١﴾
كما يحتاج الإنسان إلى النوم، فهو يحتاج إلى ضروريات أساسية أخرى كالأكل والشرب و اللباس والمسكن. و لذلك لا بد له من كسب مال حلال ؛ ليتمكن من تلبية هذه الضروريات . فلو كان في الدنيا ليل بلا نهار، وظلّ الإنسان نائمًا طوال الوقت، فكيف كان يتمكّن من تحصيل الرزق و تلبية حاجاته اللازمة ؟ لذلك جعل الله تعالى الليل للراحة والنوم، وجعل النهار للسعي والعمل وطلب المعاش .
وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ﴿١٤﴾
كلمة “المعصرات” جمع المعصرة، وهي السحب التي تمتلئ بالمطر. هذه الآية تدل على أن المطر ينزل من السحب، بينما تدل آيات أخرى على أن المطر ينزل من السماء، ولا تعارض بينهما، فإن السحب تكون حالّة في السماء. ففي هذه الآية، نسب المطر إلى الحالّ أي : السحب ، وفي الآية الأخرى، نسب إلى المحلّ أي: السماء.
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ﴿١٧﴾
المراد ب “يوم الفصل” يوم القيامة. إنّ يوم القيامة له وقت متعين ومقدَّر، كما ذكر الله تعالى في الآية الآتية من أنه يقع عند نفخ الصور.
وتشير آيات أخرى إلى أنّ النفخ في الصور سيحدث مرّتين: فعند النفخة الأولى يفنى العالم كلّه. وعند النفخة الثانية، يُبعث جميع الناس من الأوّلين والآخرين، ويُحشرون إلى ساحة الحساب أفواجًا وجماعات.
فعن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة، وصنفا ركبانا، وصنفا على وجوههم (سنن الترمذي، الرقم: ٣١٤٢)
ورد في بعض الروايات أنّ الناس يوم القيامة سيُحشرون على عشرة أصناف. وقال بعض العلماء: إنّ تقسيم الناس في ساحة الحشر سيقع بحسب أعمالهم وأخلاقهم. ولا تعارض بين هذه الروايات، لأن بعضها تذكر أصنافا، و بعضها تذكر أصنافا أخرى.
وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴿٢٠﴾
كلمة “سُيِّرَت” تدلّ على أنّ الجبال، على رغم كونها هائلة راسخة لا تتحرّك، ستفقد تماسكها وثباتها، وتُقلع عن أماكنها، حتى تصير كذرات من الغبار المتطاير في الجو.
أما كلمة “سَراب” فمعناها الأصلي: الزوال والاضمحلال، ويُطلق كذلك على ما يظنه الرائي في الصحراء ماء من بعيد، فإذا اقترب منه لم يجده شيئا. فهذه الجبال العظيمة الشامخة، التي كانت تبدو للناس قبل قيام الساعة قوية راسخة، ستصير عند وقوع القيامة هباءً منثوراً، تتطاير كالذرات، فتضمحل وتزول كما يزول السراب.