الرئيسية / روضة الحب / روضة الحبّ – ٢٠

روضة الحبّ – ٢٠

صفة الأمانة – خوف المحاسبة

أسبغ الله عزّ وجلّ على الإنسان نعما لا تعدّ ولا تحصى، منها جسدية ومنها روحانية. وفي أغلب الأحيان، نرى أن نعمة واحدة تضم نعما كثيرة، فنعمة العين – على سبيل المثال – ترى نعمة واحدة، لكنها سبب للتمتع بآلاف من النعم.

ومن النعم الروحانية التي أنعم الله عزّ وجلّ بها على الإنسان نعمة الأمانة (الاهتمام بالمحاسبة). فهي صفة إيمانية ذات أهمية بالغة، وردت في التأكيد عليها أحاديث عديدة، فعن سيدنا أنس رضي الله عنه قال: قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له (مسند أحمد، الرقم: ١٢٥٦٧)

والمراد من صفة الأمانة أن يخاف العبد في كل حين وآن المحاسبة أمام الله عزّ وجلّ في حقوقه وحقوق عباده. وهذه النعمة العظيمة تفتح الأبواب لاكتساب كثير من النعم الروحانية والجسدية. فهي تحيي قلب الإنسان، وتنوّره، وتمدّه بالبصيرة، حتى يرى قلبُه الحقَّ حقا، والباطل باطلا، ويميّز بين ما ينفعه وما يضرّه. والحاصل أن الأمانة هي التي تحثه على التقوى والصلاح في جميع شعب الحياة.

وهي – صفة الأمانة – بصيرة روحانية تمكنه من الانتفاع بنوري الدين (الكتاب والسنة) كما أن البصارة الظاهرة تمكنه من الانتفاع بنور الشمس، فكلاهما لازمان، لأن عديم البصر لا يستطيع أن يتمتع بما حوله من المناظر الجذابة والمشاهد الخلابة، كذلك من لم يكن له نور في قلبه لم يستفد من نوري الدين – الكتاب والسنة – كاملا، مع أنهما مفتاحان للسعادة الدنيوية والدينية.

فعن سيدنا حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا: أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة (أي فهموا القرآن والسنة صحيحا)، وحدثنا عن رفعها قال: ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه (أي تقبض الأمانة من قلبه بسبب ما يقترف من الذنوب والمعاصي، فلا يفهم الدين فهما صحيحا ويغفل عن حقوق الله عزّ وجلّ وحقوق العباد)

ثم قال صلى الله عليه وسلم: فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان (من صحيح البخاري، الرقم: ٦٤٩٨)

وإذا ذكرت صفة الأمانة، فالذي يخطر بالبال غالبا هو حفظ الإنسان ما أودعه صاحبه من المال. ولكن الأمانة لا تقتصر على ذلك، بل تتضمن جميع أمور الحياة، سواء كانت تتعلق بحقوق الله عزّ وجلّ أو حقوق العباد أو كانت متعلقة بالحياة الفردية أو الاجتماعية.

وفي الأيام الحالية، لو اتصف كل واحد منا بالأمانة وصار أمينا بكل معنى الكلمة، لم يقع شقاق بين الزوجين، ولم يحدث نزاع بين الأقارب والجيران والأصدقاء والشركاء في التجارة وبين أصحاب الأعمال وموظفيهم، والمعلمين والمديرين، ولم يتنازع الأطباء والمحامون والبنّاؤن. وكذلك لايُظلم أحدٌ عند تقسيم الميراث، فإن كل شخص يؤدّي حقوق الآخرين ويخاف الله عزّ وجلّ ويخشى يوم الحساب. وبالتالي يسود الأمنُ والسلامُ العالَمَ ويعيش كل إنسان عيشة هادئة.

وذكر الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله في التفسير الكبير قصّة مؤثرة تدلّ على غاية ورع الإمام أبي حنيفة رحمه الله وخوفه لله عزّ وجلّ فقال:

كان لأبي حنيفة رحمه الله على بعض المجوس مال فذهب إلى داره ليطالبه به، فلما وصل إلى باب داره وقع على نعله نجاسة، فنفض نعله فارتفعت النجاسة عن نعله ووقعت على حائط دار المجوسي فتحير أبو حنيفة وقال: إن تركتها كان ذلك سببا لقبح جدار هذا المجوسي، وإن حككتها انحدر التراب من الحائط، فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها: قولي لمولاك إن أبا حنيفة بالباب، فخرج إليه وظن أنه يطالبه بالمال، فأخذ يعتذر، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه، هاهنا ما هو أولى، وذكر قصة الجدار، وأنه كيف السبيل إلى تطهيره فقال المجوسي: فأنا أبدأ بتطهير نفسي فأسلم في الحال، والنكتة فيه أن أبا حنيفة لما احترز عن ظلم المجوسي في ذلك القدر القليل من الظلم فلأجل تركه ذلك انتقل المجوسي من الكفر إلى الإيمان، فمن احترز عن الظلم كيف يكون حاله عند الله تعالى. (التفسير الكبير ١/٢٠٤)

وفّقنا الله عزّ وجلّ للاتصاف بصفة الأمانة في جميع مجالات حياتنا.

شاهد أيضاً

مقارنة الإسلام بالأديان السابقة – روضة الحبّ – ٥٩

عندما نقارن الإسلام بالأديان السابقة، نجد أن الإسلام لم يحرّم المنكرات والسيئات فحسب، بل حرّم …